أؤمن بمقولة أن لكل طفل موهبة في مكان ما بنفسه، من خلالها يستطيع التحليق في سماء الإبداع، والمهمة هنا تكون في إكتشاف تلك الموهبة وإثرائها، وتوجيهيها نحو الخير والنافع له ولأمته.
فلقد أثبتت الدراسات الحديثة أن نسبة المبدعين من الأطفال من سن الولادة حتى سن الخامسة تصل إلى 90% منهم، وعندما يصل هؤلاء الأطفال إلى سن السابعة تقل تلك النسبة لتصل إلى 10%، وما أن يصلوا إلى الثامنة حتى تحط الموهبة رحالها على 0.02% منهم فقط.
ولنأخذ عبرة من رسولنا الكريم وكيف كان يفجر طاقات ومواهب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين من حوله ليخرجوا كل ما في جعبتهم من إبداع ساهم في نشر الإسلام وإزدهاره، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم مدى قوة حفظ ونجابة زيد بن ثابت رضي الله عنه، فأمره بتعلم لغة اليهود فأتقنها في 16 يوم، وأدرك أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يحب القرآن ومدارسته وإعمال العقل وحب اللغة، فيرشده إلى طلب العلم بطريق غير مباشرة بدعوته له «اللهم علمه تأويل القرءان» وفي رواية أخرى «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»، وحاله مع خالد بن الوليد رضي الله عنه وإطلاقه لقب سيف الله المسلول عليه، لعلمه لحب خالد للجهاد.
وكذلك كان الحال في المجتمع الإسلامي عامة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فكان المجتمع يهيئ فرصًَا متكافئة لكافة طوائف المجتمع وطبقته، فلا فرق بين مولى وسيد، فشمل الإسلام بعدله جميع الناس وإرتفع بمكانة الإنسان، وأفاد من جميع الطاقات والملكات.. فإنظر إلى مكانة نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما والذي قال عنه البخاري: أصح الأسانيد.. مالك عن نافع عن ابن عمر -سلسلة الذهب-.... وأنظر إلى منزلة عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما الذي أعتقه وأذن له بالفتيا بعد أن أنتهى إليه علم التفسير عنه، وأخذ من علمه سبعون أو يزيدون من أجلاء فقهاء التابعين.
وبالطبع تلك المهمة لا تقع على عاتق الطفل الذي لم ينل من الدنيا أي خبرة بعد تكفيه لتلك المهمة الصعبة.
إذا فالمسئولية هنا تقع على عاتق الوالدين لإكتشاف ما عند أطفالهم من مواهب وتوجيهها نحو الإبداع، والموضوع ليس بصعب ولا مستحيل ولكن يبدأ من الصغر.. فالمبدع لا ينزل من السماء مع المطر ولكنه يصنع صناعة، وللمحاولة منا في إجادة المربين تلك الصناعة نضع بعض الملامح المهمة لتلك الصناعة:
1= إختر من يمكنه أن يبدع:
قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، فالله عز وجل قد إختار موسى عليه السلام ليكون نبيًا منذ صغره، وهذا إختيار مبكر لعلمه عز وجل بضخم حجم المسئولية الملقاة على عاتق سيدنا موسى عليه السلام، وقد ذكرت في بداية المقالة أن كل أبنائنا يمكن لهم أن يبدعوا، والدراسات الحديثة أثبتت أن الذكاء العادي يكفي لإنتاج الإبداع، ومن هنا يستطيع كل شخص عاقل أن يكون مبدعًا، فالإبداع هو النظر للشيء بشكل غير مألوف.
2= وجود منهج علمي:
يطبق بشكل علمي وبواسطة مربين مدربين، ولننظر إلى المنهج الإلهي الذي طبق مع سيدنا موسى عليه السلام في قوله تعالي {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، أي منهج رباني محكم لا هوى فيه ولا ضلال، بل بحكمة وعلم الله سبحانه وتعالى.
3= التدرج في التطبيق:
مع الصبر وعدم الإستعجال فالزمن أحيانا يكون جزء من العلاج، فالمنهج الرباني مع سيدنا موسى عليه السلام إتسم بالتدرج والواقعية، وقد تم ذلك التدرج خلال فترة زمنية طويلة وخطوات رفيقة.
4= الصغير ليس بصغير:
وإن كان ولدك صغيرا في السن، فيجب أن يكون كبيرا في نظرك وإلا إستصغره الآخرون. فالطفل إذا ظل والديه يرددون أمامه -أنت مازلت صغيرًا- سيكبر ليكون جيلاً كبار في الأعمار صغار في الهمم.
وقد أجاز علماء الحديث لطفل الخامسة رواية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإستشهدوا بالحديث الذي رواه البخاري في باب: متى يصح سماع الصغير. عن محمود بن الربيع قال: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين، من دلو، لذا على الوالدين الإهتمام بإشراك الأطفال في أحاديث الكبار بما يناسب تفكيرهم وإهتماماتهم ولا نقلل من شأنهم، ونجيب على إستفساراتهم، وننصت لهم بإهتمام.
5= مرن دماغ أبنائك:
فالعقل مثله مثل البدن، يحتاج إلى تدريبات حتى يحافظ على لياقته، وعلى الوالدين محاولة جعل البيئة التي تحيط بالأبناء بيئة محفزة على الذكاء وإستخدام القدرات، ويكون ذلك إما بالقراءة، أو بعقد دورات متعددة الاتجاهات -رياضية عقلية، في الرياضيات، ثقافية- كما يتم تمرين الدماغ بالألغاز والأسئلة المحيرة التي يعشقها الكبار قبل الصغار مع عمل حافز مادي ولو بسيط ليشجعهم على الإستمرار في التفكير.
6= نعلم أبنائنا كل شهر طريقة جديدة للإبداع:
وطرق الإبداع كثيرة جدا، فمنها المحاكة، العصف الذهني، عكس المشكلة... والكثير منها، كما يمكن إستخدام برنامج الكورت للتفكير لإدوارد ديبونو، وهو برنامج مصمم لتعليم الأطفال إستخدام بعض أدوات التفكير، ويمكن للطفل أن يتعلم أداة واحدة جديدة للتفكير كل شهر، ويمكن إستخدام هذا البرنامج مع الأطفال من سن المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة.
7= في بيتنا مكتبة:
فالقراءة هي أساس أي إبداع، فالطفل منذ سنته الأولى يظهر إهتمامه بالكتب التي تحتوي على صور ملفتة للنظر وألوان زاهية، ثم يتطور الأمر معه وتبدأ الكلمات تتداخل مع الصور لكي توصلنا في النهاية لحب الطفل وشغفه بالقراءة، ومهما وصل سن الطفل يمكننا ربطه بالقراءة بوسائل عدة، وذلك بتوفير الكتب التي تلبي حاجاته القرائية، وقدراته العقلية.
8= الاحتفال بإبداع أطفالنا:
فيجب على الوالدين وضع أهداف يجب على الأبناء أن يصلوا إليها، مثل إستخدام طريقة من طرق التفكير التي تعلموها في حل مشكلة عائلية، يتم بعد ذلك عمل حفلة ولو بسيطة للإحتفال بوصول الأبناء لهذا الحل بمفردهم، مما يحفزهم على التفكير وإستخدام ما تعلموه.
ومن خلال تلك الملامح نستطيع بناء جيل مبدع مرتبط بالله عز وجل، يعمل على خدمة دينه ورقي أمته، ولا يعاني من مشاكل الإبداع المعروفة، فلقد أثبتت الكثير من الدراسات الحديثة أن نسبة غير قليلة من المبدعين قد عانوا من مشاكل نفسية وإضطرابات عقلية ونفسية، فقد ذكر الباحث كارلسون في دراسته لسير عدد من المبدعين أنه وجد أعراض مرض الذهان لدى 30% من الروائيين، و35% من الشعراء والرسامين العظام، و25% من الرياضيين، و40% من عظماء الفلاسفة، ونقل أوسشي عن دراسة لسير حياة 47 كاتبا بريطانيًا مشهورًا، أن 38% منهم قد عولجوا من الهوس الإكتئابي المتكرر، ولكي لا يقع المبدعون والموهوبون من أبنائنا في مثل هذه المشاكل لابد وأن نربطهم بالله تعالى ليكونوا ربانيين، لأن المبدع الرباني قلما يتعرض لمثل هذه الهزات النفسية العنيفة، والدليل على ذلك أن تاريخ أمتنا ملئ بمئات المبدعين الذين اتصلوا بالله تعالى حبا وإيمان، فامتلأت حياتهم بالهدوء النفسي والسكينة القلبية، وهذا هو غاية التربية التي نأمل أن نوفق إليها مع أبنائنا.
الكاتب: أ. معتز مصطفى شاهين.
المصدر: موقع المستشار.